فصل: تفسير الآيات (150- 152):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (148- 149):

{لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)}
نفي الحبّ كناية عن البغض، وقراءة الجمهور: {إَلاَّ مَن ظَلَمَ} على البناء للمجهول. وقرأ زيد بن أسلم، وابن أبي إسحاق، والضحاك، وابن عباس، وابن جبير، وعطاء بن السائب {إَلاَّ مَن ظَلَمَ} على البناء للمعلوم، وهو على القراءة الأولى استثناء متصل بتقدير مضاف محذوف، أي: إلا جهر من ظلم. وقيل: إنه على القراءة الأولى أيضاً منقطع، أي: لكن من ظلم، فله أن يقول ظلمني فلان.
واختلف أهل العلم في كيفية الجهر بالسوء الذي يجوز لمن ظلم، فقيل: هو أن يدعو على من ظلمه. وقيل: لا بأس أن يجهر بالسوء من القول على من ظلمه بأن يقول: فلان ظلمني، أو هو ظالم أو نحو ذلك. وقيل معناه: إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول من كفر أو نحوه، فهو مباح له، والآية على هذا في الاكراه، وكذا قال قطرب، قال: ويجوز أن يكون على البدل كأنه قال لا يحبّ الله إلا من ظلم، أي: لا يحبّ الظالم بل يحبّ المظلوم. والظاهر من الآية أنه يجوز لمن ظلم أن يتكلم بالكلام الذي: هو من السوء في جانب من ظلمه، ويؤيده الحديث الثابت في الصحيح بلفظ: «ليّ الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته»، وأما على القراءة الثانية، فالاستثناء منقطع، أي: إلا من ظلم في فعل أو قول، فاجهروا له بالسوء من القول في معنى النهي عن فعله والتوبيخ له.
وقال قوم: معنى الكلام لا يحبّ الله أن يجهر أحد بالسوء من القول، لكن من ظلم، فإنه يجهر بالسوء ظلماً وعدواناً، وهو ظالم في ذلك، وهذا شأن كثير من الظلمة، فإنهم مع ظلمهم يستطيلون بألسنتهم على من ظلموه، وينالون من عرضه.
وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى إلا من ظلم، فقال سوءاً، فإنه ينبغي أن يأخذوا على يديه، ويكون استثناء ليس من الأوّل {وَكَانَ الله سَمِيعاً عَلِيماً} هذا تحذير للظالم بأن الله يسمع ما يصدر منه ويعلم به، ثم بعد أن أباح للمظلوم أن يجهر بالسوء ندب إلى ما هو الأولى والأفضل، فقال: {إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهْ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوء} تصابون به {فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً} عن عباده {قَدِيراً} على الانتقام منهم بما كسبت أيديهم، فاقتدوا به سبحانه، فإنه يعفو مع القدرة.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول} قال: لا يحبّ الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوماً، فإنه رخص له أن يدعو على من ظلمه، وإن يصبر فهو خير له.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد في الآية قال: نزلت في رجل ضاف رجلاً بفلاة من الأرض، فلم يضفه، ثم ذكر أنه لم يضفه لم يزد على ذلك.
وأخرج ابن المنذر عن إسماعيل {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ} قال: كان الضحاك بن مزاحم يقول هذا على التقديم والتأخير، يقول الله. ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم، وآمنتم إلا من ظلم، وكان يقرؤها كذلك، ثم قال: {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول} أي: على كل حال هكذا قال، وهو قريب من التحريف لمعنى الآية.
وقد أخرج ابن أبي شيبة، والترمذي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا على من ظلمه، فقد انتصر» وروى نحوه أبو داود عنها من وجه آخر.
وقد أخرج أبو داود من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المتسابان ما قالاه، فعلى البادئ منهما ما لم يعتد المظلوم».

.تفسير الآيات (150- 152):

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)}
لما فرغ من ذكر المشركين والمنافقين ذكر الكفار من أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى؛ لأنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك كالكفر بجميع الرسل، والكتب المنزلة، والكفر بذلك كفر بالله، وينبغي حمل قوله: {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ} على أنه استلزم ذلك كفرهم ببعض الكتب والرسل، لا أنهم كفروا بالله ورسله جميعاً، فإن أهل الكتاب لم يكفروا بالله ولا بجميع رسله، لكنهم لما كفروا بالبعض كان ذلك كفر بالله وبجميع الرسل. ومعنى: {وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ} أنهم كفروا بالرسل بسبب كفرهم ببعضهم، وآمنوا بالله، فكان ذلك تفريقاً بين الله وبين رسله {وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} هم اليهود آمنوا بموسى، وكفروا بعيسى ومحمد، وكذلك النصارى آمنوا بعيسى، وكفروا بمحمد: {وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً} أي: يتخذوا بين الإيمان والكفر ديناً متوسطاً بينهما، فالإشارة بقوله: {ذلك} إلى قوله نؤمن ونكفر {أُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون} أي: الكاملون في الكفر. وقوله: {حَقّاً} مصدر مؤكد لمضمون الجملة، أي: حق ذلك حقاً. أو هو صفه لمصدر الكافرين، أي: كفراً حقاً. قوله: {وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ} بأن يقولوا نؤمن ببعض ونكفر ببعض، ودخول {بين} على {أحد} لكونه عاماً في المفرد مذكراً ومؤنثاً ومثناهما وجمعهما.
وقد تقدّم تحقيقه، والإشارة بقوله: {أولئك} إلى الذين آمنوا بالله ورسله، ولم يفرّقوا بين أحد منهم.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في الآية، قال: {أولئك} أعداء الله اليهود، والنصارى آمنت اليهود بالتوراة، وموسى، وكفروا بالإنجيل، وعيسى، وآمنت النصارى بالإنجيل وعيسى، وكفروا بالقرآن ومحمد، اتخذوا اليهودية والنصرانية وهما بدعتان ليستا من الله وتركوا الإسلام، وهو دين الله الذي بعث به رسله.
وأخرج ابن جرير، عن السديّ، وابن جريج نحوه.

.تفسير الآيات (153- 159):

{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآَتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)}
قوله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب} هم اليهود سألوه صلى الله عليه وسلم أن يرقى إلى السماء وهم يرونه، فينزل عليهم كتاباً مكتوباً فيما يدّعيه يدل على صدقه دفعة واحدة، كما أتى موسى التوراة تعنتاً منهم، أبعدهم الله، فأخبره الله عزّ وجلّ بأنهم قد سألوا موسى سؤالاً أكبر من هذا السؤال، فقالوا: {أَرِنَا الله جَهْرَةً} أي: عياناً، وقد تقدّم معناه في البقرة، وجهرة نعت لمصدر محذوف، أي: رؤية جهرة.
وقوله: {فَقَدْ سَأَلُواْ} جواب شرط مقدّر، أي: إن استكبرت هذا السؤال منهم لك، فقد سألوا موسى أكبر من ذلك. قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة} هي النار التي نزلت عليهم من السماء فأهلكتهم، والباء في قوله: {بِظُلْمِهِمْ} للسببية، أي: بسبب ظلمهم في سؤالهم الباطل لامتناع الرؤية عياناً في هذه الحالة، وذلك لا يستلزم امتناعها يوم القيامة، فقد جاءت بذلك الأحاديث المتواترة. ومن استدل بهذه الآية على امتناع الرؤية يوم القيامة، فقد غلط غلطاً بيناً، ثم لم يكتفوا بهذا السؤال الباطل الذي نشأ منهم بسبب ظلمهم بعد ما رأوا المعجزات، بل ضموا إليه ما هو أقبح منه، وهو عبادة العجل. وفي الكلام حذف والتقدير: فأحييناهم فاتخذوا العجل. والبينات: البراهين، والدلائل، والمعجزات من اليد، والعصا، وفلق البحر وغيرها {فَعَفَوْنَا عَن ذلك} أي: عما كان منهم من التعنت، وعبادة العجل، {وآتينا موسى سلطاناً مبيناً} أي: حجة بينة وهي: الآيات التي جاء بها، وسميت سلطاناً؛ لأن من جهر بها قهر خصمه، ومن ذلك أمر الله سبحانه له بأن يأمرهم بقتل أنفسهم توبة عن معصيتهم، فإنه من جملة السلطان الذي قهرهم به: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور بميثاقهم} أي: بسبب ميثاقهم ليعطوه؛ لأنه روى أنهم امتنعوا من قبول شريعة موسى، فرفع الله عليهم الطور فقبلوها. وقيل: إن المعنى بسبب نقضهم ميثاقهم الذي أخذ منهم، وهو العمل بما في التوراة، وقد تقدّم رفع الجبل في البقرة، وكذلك تفسير دخولهم الباب سجداً: {وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ في السبت} فتأخذوا ما أمرتم بتركه فيه من الحيتان، وقد تقدّم تفسير ذلك، وقرئ: {لا تعتدوا} وتعدّوا بفتح العين، وتشديد الدال {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ ميثاقا غَلِيظاً} مؤكداً، وهو العهد الذي أخذه عليهم في التوراة. وقيل: إنه عهد مؤكداً باليمين، فسمي غليظاً لذلك.
قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم} ما مزيدة للتوكيد، أو نكرة، ونقضهم بدل منها، والباء متعلقة بمحذوف، والتقدير: فبنقضهم ميثاقهم لعناهم.
وقال الكسائي: هو متعلق بما قبله والمعنى: فأخذتهم الصاعقة بظلمهم إلى قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم} قال: ففسر ظلمهم الذي أخذتهم الصاعقة بسببه بما بعده من نقضهم ميثاقهم، وقتلهم الأنبياء وما بعده.
وأنكر ذلك ابن جرير الطبري وغيره؛ لأن الذين أخذتهم الصاعقة كانوا على عهد موسى، والذين قتلوا الأنبياء، ورموا مريم بالبهتان كانوا بعد موسى بزمان، فلم تأخذ الصاعقة الذين أخذتهم برميهم بالبهتان. قال المهدوي وغيره: وهذا لا يلزم لأن يجوز أن يخبر عنهم، والمراد آباؤهم، وقال الزجاج: المعنى فبنقضهم ميثاقهم حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم؛ لأنه هذه القصة ممتدة إلى قوله: {فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا} [النساء: 160] ونقضهم الميثاق أنه أخذ عليهم أن يبينوا صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقيل المعنى: فبنقضهم ميثاقهم وفعلهم كذا طبع الله على قلوبهم. وقيل المعنى: فبنقضهم لا يؤمنون إلا قليلاً، والفاء في قوله: {فَلاَ يُؤْمِنُونَ} مقحمة.
قوله: {وَكُفْرِهِم بئايات الله} معطوف على ما قبله، وكذا قوله: {وَقَتْلِهِمُ} والمراد بآيات الله كتبهم التي حرّفوها، والمراد بالأنبياء الذين قتلوهم يحيى، وزكرياء. وغلف جمع أغلف، وهو المغطى بالغلاف، أي: قلوبنا في أغطية، فلا تفقه ما تقول: وقيل: إن غلف جمع غلاف، والمعنى: أن قلوبهم أوعية للعلم، فلا حاجة لهم إلى علم غير ما قد حوته قلوبهم، وهو كقولهم: {قُلُوبَنَا في أَكِنَّةٍ} [فصلت: 5] وغرضهم بهذا ردّ حجة الرسل. قوله: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} هذه الجملة اعتراضية، أي: ليس عدم قبولهم للحق بسبب كونها غلفاً بحسب مقصدهم الذي يريدونه، بل بحسب الطبع من الله عليها. والطبع: الختم، وقد تقدم إيضاح معناه في البقرة، وقوله: {فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} أي: هي مطبوع عليها من الله بسبب كفرهم، فلا يؤمنون إلا إيماناً قليلاً، أو إلا قليلاً منهم كعبد الله بن سلام، ومن أسلم معه منهم، وقوله: {وَبِكُفْرِهِمْ} معطوف على {قولهم} وإعادة الجار لوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، وهذا التكرير لإفادة أنهم كفروا كفراً بعد كفر. وقيل: إن المراد بهذا الكفر: كفرهم بالمسيح، فحذف لدلالة ما بعده عليه. قوله: {وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بهتانا عَظِيماً} هو رميها بيوسف النجار، وكان من الصالحين. والبهتان: الكذب المفرط الذي يتعجب منه.
قوله: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله} معطوف على ما قبله، وهو من جملة جناياتهم وذنوبهم لأنهم كذبوا بأنهم قتلوه، وافتخروا بقتله، وذكروه بالرسالة استهزاء؛ لأنهم ينكرونها، ولا يعترفون بأنه نبيّ، وما ادّعوه من أنهم قتلوه قد اشتمل على بيان صفته، وإيضاح حقيقته الانجيل، وما فيه هو من تحريف النصارى، أبعدهم الله، فقد كذبوا وصدق الله القائل في كتابه العزيز: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} والجملة حالية، أي: قالوا ذلك والحال أنهم ما قتلوه وما صلبوه {ولكن شُبّهَ لَهُمْ} أي: ألقى شبهه على غيره. وقيل: لم يكونوا يعرفون شخصه، وقتلوا الذين قتلوه، وهم شاكون فيه: {وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ} أي: في شأن عيسى، فقال بعضهم: قتلناه، وقال من عاين رفعه إلى السماء ما قتلناه، وقيل: إن الاختلاف بينهم، هو أن النسطورية من النصارى قالوا: صلب عيسى من جهة ناسوته لا من جهة لا هوته، وقالت الملكانية: وقع القتل والصلب على المسيح بكماله ناسوته ولاهوته، ولهم من جنس هذا الاختلاف كلام طويل لا أصل له، ولهذا قال الله: {وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِى شَكّ مّنْهُ} أي: في تردّد لا يخرج إلى حيز الصحة، ولا إلى حيز البطلان في اعتقادهم، بل هم متردّدون مرتابون في شكهم يعمهون، وفي جهلهم يتحيرون، و{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن} من زائدة لتوكيد نفي العلم، والاستثناء منقطع، أي: لكنهم يتبعون الظن.
وقيل: هو بدل بما قبله. والأوّل أولى. لا يقال إن اتباع الظنّ ينافي الشكّ الذي أخبر الله عنهم بأنهم فيه، لأن المراد هنا بالشك: التردد كما قدمنا، والظنّ نوع منه، وليس المراد به هنا: ترجح أحد الجانبين.
قوله: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} أي: قتلاً يقيناً على أنه صفة مصدر محذوف، أو متيقنين على أنه حال، وهذا على أن الضمير في قتلوه لعيسى، وقيل: إنه يعود إلى الظن، والمعنى: ما قتلوا ظنهم يقيناً كقولك قتلته علماً إذا علمته علماً تاماً. قال أبو عبيدة: ولو كان المعنى وما قتلوا عيسى يقيناً لقال وما قتلوه فقط. وقيل المعنى: وما قتلوا الذي شبه لهم. وقيل المعنى: بل رفعه الله إليه يقيناً، وهو خطأ؛ لأنه لا يعمل لا بعد بل فيما قبلها. وأجاز ابن الأنباري نصب يقيناً بفعل مضمر هو جواب قسم، ويكون {بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ} كلاماً مستأنفاً ولا وجه لهذه الأقوال، والضمائر قبل قتلوه وبعده لعيسى، وذكر اليقين هنا لقصد التهكم بهم لإشعاره بعلمهم في الجملة.
قوله: {بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ} ردّ عليهم وإثبات لما هو الصحيح، وقد تقدم ذكر رفعه عليه السلام في آل عمران. قوله: {وَإِن مّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} المراد بأهل الكتاب: اليهود والنصارى، والمعنى: وما من أهل الكتاب أحد إلا والله ليؤمنن به قبل موته، والضمير في به راجع إلى عيسى، والضمير في موته راجع إلى ما دلّ عليه الكلام، وهو لفظ أحد المقدّر، أو الكتابي المدلول عليه بأهل الكتاب، وفيه دليل على أنه لا يموت يهودّي، أو نصرانيّ إلا وقد آمن بالمسيح؛ وقيل: كلا الضميرين لعيسى، والمعنى: أنه لا يموت عيسى حتى يؤمن به كل كتابيّ في عصره. وقيل: الضمير الأوّل لله؛ وقيل: إلى محمد، وقد اختار كون الضميرين لعيسى ابن جرير، وقال به جماعة من السلف، وهو الظاهر، والمراد الإيمان به عند نزوله في آخر الزمان، كما وردت بذلك الأحاديث المتواترة {وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ} عيسى على أهل الكتاب {شَهِيداً} يشهد على اليهود بالتكذيب له، وعلى النصارى بالغلوّ فيه حتى قالوا هو ابن الله.
وقد أخرج ابن جرير، عن محمد بن كعب القرظي قال: جاء ناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن موسى جاء بالألواح من عند الله، فأتنا بالألواح من عند الله حتى نصدقك، فأنزل الله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كتابا مّنَ السماء} إلى قوله: {وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بهتانا عَظِيماً}.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال: إن اليهود والنصارى قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: لن نبايعك على ما تدعونا إليه حتى تأتينا بكتاب من عند الله إلى فلان أنك رسول الله وإلى فلان أنك رسول الله، فأنزل الله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب} الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله: {أَرِنَا الله جَهْرَةً} قال: إنهم إذا رأوه فقد رأوه، وإنما قالوا جهرة أرنا الله قال: هو مقدم ومؤخر.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن قتادة في قوله: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور} قال: جبل كانوا في أصله فرفعه الله، فجعله فوقهم كأنه ظلة، فقال: لتأخذنّ أمري أو لأرمينكم به، فقالوا نأخذه، فأمسكه الله عنهم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بهتانا عَظِيماً} قال: رموها بالزنا.
وأخرج سعيد بن منصور، والنسائي، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس قال: لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج إلى أصحابه، وفي البيت اثنا عشر رجلاً من الحواريين، فخرج عليهم من عين في البيت، ورأسه يقطر ماء، فقال: إن منكم من يكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي، ثم قال: أيكم يلقى عليه شبهي، فيقتل مكاني، ويكون معي في درجتي؟ فقام شاب من أحدثهم سناً، فقال له اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام الشاب، فقال: اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام الشاب فقال أنا، فقال: أنت ذاك فألقى عليه شبه عيسى، ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء؛ قال: وجاء الطلب من اليهود، فأخذوا الشبه، فقتلوه، ثم صلبوه، فكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به، وافترقوا ثلاث فرق، فقالت طائفة: كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء، فهؤلاء اليعقوبية؛ وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء النسطورية. وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله، وهؤلاء المسلمون، فتظاهرت الكافرتان على المسلمة، فقتلوها، فلم يزل الإِسلام طامساً حتى بعث الله محمداً، فأنزل الله عليه: {فآمنت طائفة من بني إسرائيل} يعني: الطائفة التي آمنت في زمن عيسى: {وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ} يعني التي كفرت في زمن عيسى.
{فأيدنا الذين ءامَنُواْ} [الصف: 14] في زمن عيسى بإظهار محمد دينهم على دين الكافرين. قال ابن كثير بعد أن ساقه بهذا اللفظ عن ابن أبي حاتم قال: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، فذكره. وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس. وصدق ابن كثير، فهؤلاء كلهم من رجال الصحيح.
وأخرجه النسائي، من حديث أبي كريب، عن أبي معاوية بنحوه.
وقد رويت قصته عليه السلام من طرق بألفاظ مختلفة، وساقها عبد بن حميد، وابن جرير، عن وهب بن منبه على صفة قريبة مما في الإنجيل، وكذلك ساقها ابن المنذر عنه.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس في قوله: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} قال: لم يقتلوا ظنهم يقيناً.
وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد مثله.
وأخرج ابن جرير، عن ابن جويبر، والسدّي مثله أيضاً.
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد، والحاكم وصححه، عن ابن عباس في قوله: {وَإِن مّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} قال: خروج عيسى ابن مريم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، من طرق عنه في الآية قال: قبل موت عيسى.
وأخرجا عنه أيضاً قال: قبل موت اليهودي.
وأخرج ابن جرير عنه قال: إنه سيدرك أناس من أهل الكتاب عيسى حين يبعث سيؤمنون به.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر عنه قال: ليس يهوديّ يموت أبداً حتى يؤمن بعيسى؛ قيل لابن عباس أرأيت إن خرّ من فوق بيت؟ قال يتكلم به في الهواء؛ فقيل أرأيت إن ضرب عنق أحدهم؟ قال: يتلجلج بها لسانه.
وقد روي نحو هذا عنه من طرق، وقال به جماعة من التابعين، وذهب كثير من التابعين فمن بعدهم إلى أن المراد: قبل موت عيسى، كما روي عن ابن عباس قبل هذا، وقيده كثير منهم بأنه يؤمن به من أدركه عند نزوله إلى الأرض.
وقد تواترت الأحاديث بنزول عيسى حسبما، أوضحنا ذلك في مؤلف مستقلّ يتضمن ذكر ما ورد في المنتظر والدجال والمسيح.